مصر: دماء وموت وألسنة لهب.. ذكريات مذبحة “رابعة العدوية”

بينما يسير المرء في ميدان “رابعة العدوية” المزدحم بحركة المرور في القاهرة اليوم، لن يدرك أبدًا أن هذا الميدان كان مسرحًا قبل سنتين لأكثر الحوادث دمويةً في تاريخ مصر الحديث، أي عندما قامت قوات الأمن بفض اعتصامين في القاهرة وغيرهما من الاحتجاجات في مختلف مدن مصر، ما أدى إلى مقتل حوالي ألف شخص في يوم واحد فقط.

وأطلقت الحكومة مؤخرًا اسمًا جديدًا على الميدان وأصبح يحمل اسم النائب العام هشام بركات، الذي اغتيل في انفجار سيارة مفخخة في القاهرة بتاريخ 29 يونيه. وبالنسبة للبعض كان النائب العام رمزًا لقيام الدولة بحماية مواطنيها، ولكنه كان بالنسبة للكثير غيرهم رمزًا للقمع والتغطية على انتهاكات قوات الأمن، ومصدر الأوامر لحبس الآلاف الذين اُلقي القبض عليهم في إطار حملة مستمرة على مدار السنتين الماضيتين تقوم السلطات من خلالها بقمع المعارضة.

وظل النصب التذكاري الوحيد المتبقي في الميدان هو نصب جرى تشييده بعد المذبحة يمثل ذراعين متشابكتين ترمزان إلى الشرطة والجيش وتحتضنان كرة فضية ترمز إلى الشعب المصري.

لن أنسى ما حييت الرجل الذي خاطر بحياته من خلال عبوره من أمام القناصة لجلب حقيبة بلاستيكية صغيرة من الأدوية اللازمة عقب نفاد الإمدادات الطبية.

نادين حداد

ولم يعد في الميدان ما يعيد إلى الأذهان رائحة الدم والموت وألسنة اللهب التي لفت المكان حينها سوى الذكريات التي يستحضرها المرء أثناء تجواله في الميدان اليوم.

وللمرة الأولى منذ أن كنت شاهدًا على المذبحة، قمت في يوليو هذا العام بزيارة أخرى للمركز الطبي الذي يطل على ميدان “رابعة العدوية”. ولقد تم تنظيف جدران المركز الخارجية التي اسود لونها عقب إضرام قوات الأمن النار في المبنى يومها. كما تمت إزالة آثار الدماء منذ أمد طويل من على جدرانه الداخلية وأرضياته وسلالمه اللولبية. وها قد أصبح المركز يظهر كغيره من المراكز الطبية نرى فيه الأطباء والمرضى يتابع كل منهم شأنه في هدوء تام.

وأما في يوم 14 أغسطس 2013، فكان يتعين على المرء أن يعبر مرمى نيران القناصة للوصول إلى المركز الطبي أو مغادرته. وأما في الداخل فلقد سادت مشاهد الفوضى والطوارئ. وكان هناك نقصٌ في عدد الأسرّة والمعدات الطبية واستلقى الكثير من الجرحى على أية مساحة خالية من أرض المركز، بل واستلقوا إلى جانب جثث القتلى المسجية أرضًا.

ولن أنسى ما حييت الرجل الذي خاطر بحياته من خلال عبوره من أمام القناصة لجلب حقيبة بلاستيكية صغيرة من الأدوية اللازمة عقب نفاد الإمدادات الطبية. ولن أنسى تلك المرأة المتشحة بنقابها الأسود وهي تجلس على أرضية المستشفى وسط بركة من الدماء إلى جانب جثة زوجها الذي أُصيب برصاصة في رأسه. فلقد كانت رائحة الموت تزكم الأنوف في جميع أرجاء المكان يومها.

ولا يزال الكثير من المواطنين المصريين العاديين يعيشون في ظلال أحداث “رابعة العدوية”، فلقد اتضح أن الأحداث كانت نقطة تحول ويومًا كشرت فيه قوات الأمن عن أنيابها، واستعرضت كامل شراستها دون تنمق.

كانت سارة الطالبة البالغة من العمر 25 عامًا، من بين المشاركات المحتجات في اعتصام رابعة. وكان آخر مشهد تذكر فيه رؤية والدها الطبيب محمد السيد 58) عامًا) بعد أسبوعين من أحداث “رابعة العدوية”، أي لحظة قيام أربعة رجال مقنعين ومفتولي العضلات بدفعه للركوب في سيارة من الخلف عقب توقفها أمام منزله، قبل أن تنطلق مسرعةً، وقد أطلق ركابها النار على أفراد عائلة الطبيب وجيرانه الذين حاولوا اللحاق بهم. ولم تر سارة والدها بعد ذلك أو تسمع صوته منذ ذلك اليوم.

وتتساءل سارة قائلة: “أين والدي؟ أين القانون في هذا البلد؟ ما الأدلة ضده؟”.

وأما في مسقط رأسها الزقازيق شمال القاهرة، فتقول سارة إن الأمر قد استغرق الشرطة ثلاثة أيام لتحرير بلاغ رسمي بواقعة اختفاء والدها. وذهبت الشكوى التي تقدمت أسرته بها لدى النيابة العامة أدراج الرياح. واكتشفت سارة عن طريق مصادر غير رسمية أنه من المرجح أن يكون والدها سجينًا في أحد السجون العسكرية في مكانٍ ما من البلاد.

يفر الصحفيون خلال الاشتباكات بين جماعة الإخوان المسلمون من أنصار الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي وقوات الشرطة يوم 14 أغسطس .2013 أثناء عملية إخلاء مخيم رابعة العدوية
AFP/ Stringer
يفر الصحفيون خلال الاشتباكات بين جماعة الإخوان المسلمون من أنصار الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي وقوات الشرطة يوم 14 أغسطس .2013 أثناء عملية إخلاء مخيم رابعة العدوية AFP/ Stringer

ومع حلول الذكرى السنوية الثانية لاختفاء والدها، تقول سارة:”لا أشعر أنني على قيد الحياة. فلقد كان أبي روح أسرتنا وتم اختطافه من بيننا”.

وانضم الطبيب محمد السيد إلى قائمة متنامية من أشخاص قُبض عليهم واحتُجزوا بمعزل عن العالم الخارجي لفترات طويلة جدًا، في ظل ظروف ترقى إلى مصاف الإخفاء القسري، في ممارسة ظلت عنوان السنتين اللتين أعقبتا الإطاحة برئيس مصر الأسبق محمد مرسي عن منصبه على أيدي الجيش.

وأطلقت قوات الشرطة والجيش نيران أسلحتها، ولجأت إلى استخدام القوة المفرطة لتفريق اعتصام أنصار مرسي في أربع مناسبات، خلال شهري يوليو وأغسطس2013؛ فيما كانت “مذبحة رابعة” بتاريخ 14 أغسطس 2013 أحلك أيام مصر.

وعلى مدار سنتين منذ ذلك التاريخ، لم تتم محاسبة أحد من عناصر قوات الأمن على سقوط مئات القتلى والجرحى في ذلك اليوم .كما تقاعس النائب العام وأعضاء لجنة تقصي الحقائق التي عينتها الحكومة للتحقيق في عمليات القتل تلك عن مراعاة العدالة واحترامها؛ بل ولقد ألقوا باللوم على المحتجين في التسبب بأعمال العنف، ووفروا غطاءً لقوات الأمن يحول دون توجيه الانتقادات إليها.

لا بل سرّعت السلطات من وتيرة قمعها للآلاف من أنصار الرئيس الأسبق مرسي أو حركة الإخوان المسلمين التي تم اعتبارها لاحقًا منظمة إرهابية. كما استهدفت حملة القمع الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والطلبة، ومن يُعتقد أنهم من معارضي الحكومة، وغيرهم ممن وجدوا أنفسهم في المكان والتوقيت غير المناسبين.

وقبض على ما يربو على 22 ألف شخص منذ يوليو 2013وتوفي 124 شخصًا في الحجز، إما جراء التعذيب وغير ذلك من ضروب المعاملة السيئة، أو نتيجةً لتردي الأوضاع داخل السجون وغياب الرعاية الطبية فيها.

على مدار سنتين منذ ذلك التاريخ، لم تتم محاسبة أحد من عناصر قوات الأمن على سقوط مئات القتلى والجرحى في ذلك اليوم … بل ولقد ألقوا باللوم على المحتجين في التسبب بأعمال العنف، ووفروا غطاءً لقوات الأمن يحول دون توجيه الانتقادات إليها.

نادين حداد

كما أصبح نظام العدالة الجنائية في مصر مجرد أداة أخرى للقمع من خلال ملاحقة ومحاكمة الأفراد في محاكمات جماعية على قدر عظيم من الجوْر أصدر القضاة بموجبها أحكامًا بالإعدام أو السجن المؤبد بحق المئات من الأشخاص غالبيتهم من أنصار جماعة الإخوان.

وخوفًا من التعرض للاعتقال أو الملاحقة القضائية، اضطُر الكثير ممن شاركوا في اعتصام رابعة إلى التواري عن الأنظار، ما حرمهم من إمكانية أداء أعمالهم، كونهم يمضون جل أوقاتهم في التنقل من مكان إلى آخر ومن منزل إلى آخر، وتغيير أرقام هواتفهم باستمرار لتفادي القبض عليهم.

وأفاد “أحمد. س”- تم إخفاء اسمه لأسباب أمنية- الذي يعمل طبيبًا بيطريًا ويُعد من مناصري الجماعة، بأنه لم يتمكن من الالتحاق بعمله أو التوجه إلى مدينته دمياط طوال السنتين الماضيتين خوفًا من أن يتم حبسه.

وقال لي أحمد:” سُجنت ثلاث سنوات إبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. ولكن انتهاكات حقوق الإنسان التي تُرتكب الآن أسوأ بكثير عما كانت عليه فيما مضى”.

ويطالب متولي علي سيد، الذي قُتل ولداه عقب إطلاق قوات الأمن النار عليهما في اعتصام رابعة، بتحقيق العدالة في قضية قتلهما وقضايا جميع القتلى أيضًا.

وقال متولي: “إنهم لا يعاملوننا على أننا … بشر”.

والصمت المطبق هو كل ما بدر عن المجتمع الدولي حتى الآن في وجه الأزمة المتصاعدة لأوضاع حقوق الإنسان في مصر.

  فلقد التزمت جميع البلدان تقريبًا ومندوبوها رفيعو المستوى الصمت أثناء جلسات مجلس حقوق الإنسان؛ بل سعى الكثير من حلفاء مصر إلى تعزيز الروابط التجارية والاقتصادية مع حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي، واستأنفت صادرات أسلحتها في الأشهر الأخيرة، ووقعت عقود مبيعات جديدة.

ولا شك أن احترام حقوق الإنسان يكتسي أهمية أساسية لمستقبل الاستقرار والازدهار في مصر. ويجب على البلدان المختلفة أن تقوم بإجراءات قوية منسقة في إطار الأمم المتحدة، وإصدار إدانة علنية لتدهور أوضاع حقوق الإنسان في مصر، بما في ذلك استغلال مناسبة انعقاد دورة مجلس حقوق الإنسان في سبتمبر/ أيلول المقبل. ويتعين على الدول كافة، بما فيها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، أن تعلق فورًا إرسال جميع صادرات أسلحتها وشحناتها إلى مصر؛ حتى يتسنى التأكد بأنها لن تُستخدم في أعمال القمع الداخلي.


إن هذا التقاعس الجماعي عن التحرك في وجه أكثر الأيام دمويةً وقمعًا في تاريخ مصر الحديث ليشكل إهانةً للعدالة والإنسانية، وتدنيسًا لذكرى الذين قضوا نحبهم، وتعاميًا مقصودًا عن وضع لن يزداد إلا سوءًا طالما ظلت الأمور على حالها دون رقيب ولا حسيب.

نشرت هذه المدونة أولا فى مدى مصر.