داخل المحكمة العسكرية في لبنان: ليس مكانًا للمدنيين

سحر مندور هي باحثة في منظمة العفو الدولية مختصة بالشأن اللبناني، وهي تحضر جلسات محاكمة تاريخية تتعلق بالتعذيب أمام المحكمة العسكرية في البلاد التي تنظر في وفاة اللاجئ السوري في الحجز بشار عبد سعود، في أعقاب مزاعم تعرّضه للتعذيب على أيدي عناصر جهاز أمن الدولة. ومن المقرر انعقاد الجلسة الخامسة وإصدار الحكم في 5 يوليو/تموز. وسعياً لإحقاق العدالة والتوصل إلى الحقيقة والتعويض على عائلة بشار، تقدّم الباحثة هنا مشاهداتها لمسار محاكمة يسودها العسكر.

بينما كنتُ أقف أمام المحكمة العسكرية في 16 ديسمبر/كانون الأول 2022، اختلطت لديّ مشاعر الشجاعة والخوف. شعرت بالشجاعة، لأنني كنت قد تقدمت بطلب رسمي إلى رئاسة المحكمة العسكرية لحضور جلسة المحاكمة هذه، وشعرت بالخوف لأنني لم أحصل على الموافقة، لكنني قررت الحضور على أي حال وطلب الموافقة شخصيًا. ومع أن جلسات المحاكمة يُفترض أن تكون متاحة للعموم، إلا أنه عمليًا يمكن أن يُعدّ الحضور بدون موافقة مسبقة تجاوزًا ويضعني تحت ناظريهم.

وكوني مواطنة غير لبنانية أعيش في البلاد بموجب بطاقة إقامة، شعرت بهشاشةٍ إضافية. وحاولت تخيُّل كم ستزداد صعوبة الموقف ورعبه بالنسبة للاجئ سوري يمثل أمام محكمة عسكرية في لبنان.

كنتُ هناك لأحضر محاكمة تاريخية: أول قضية تعذيب تصل إلى المحكمة (سواء مدنية أو عسكرية) منذ أن أقرّ لبنان القانون 65 في عام 2017 الذي يُجرّم التعذيب. ومنذ عام 2017، وثّقتُ ممارسة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة ضد عشرات النشطاء، واللاجئين، وأفراد مجتمع الميم عين، وغيرهم من المدنيين والجنود على السواء في مراكز الاحتجاز اللبنانية. وبرغم تقديم عشرات شكاوى التعذيب على مدى السنوات السبع الماضية، لم يصل أيّ منها إلى مرحلة المحاكمة.

وقد فضحت صحيفة محلية تعذيب بشار عبد سعود في سبتمبر/أيلول 2022، عندما نشرت صورًا مسرّبة توثق الجروح والحروق المخيفة على جثمانه. وكان من الصعب على المؤسسة العسكرية دفن هذه القضية. بل كان من الصعب على أي كان أن يتغاضى عنها ويطوي الصفحة عقب مشاهدة هذه الصور.

توفي بشار في 30 أغسطس/آب 2022 عقب قضاء يوم واحد فقط في الحجز لدى جهاز أمن الدولة في لبنان. وقد اتهم قاضي التحقيق العسكري – في لائحة اتهام رسمية مفصلية صدرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 – خمسة من رتباء أمن الدولة بتعذيبه حتى الموت.

في جلسة المحاكمة الأولى التي جرت في 16 ديسمبر/كانون الأول 2022، قدّم الأفراد الخمسة الرواية ذاتها للأحداث التي أدت إلى وفاة بشار – ملقين باللوم عن ضربه على عنصر واحد فقط للسيطرة عليه.

في الجلسة الثانية التي عُقدت في 5 مايو/أيار 2023، جلستُ في المحكمة العسكرية من الساعة التاسعة صباحًا وحتى ساعة متأخرة من بعد الظهر بانتظار المحاكمة، لكن حالما أعلن القاضي بدء الجلسة، ترتب على أحد القضاة تأجيلها لأن محامي أحد المتهمين لم يحضر.

وطلب المحامي الذي عينته عائلة بشار أن تواصل منظمة العفو الدولية حضور جلسات المحكمة، لاسيما وأن عشرات شكاوى التعذيب التي رُفعت ضد الأجهزة الأمنية والعسكرية قوبلت بالحفظ بدون إجراء تحقيق. وكان يخشى من أنه حالما تتحول الأنظار عن قضية بشار، ستُغلق المحكمة هذه القضية أيضًا.

وللغرض ذاته، انضم إليّ باحثون من منظمات أخرى، وعملنا معًا كقافلة لحقوق الإنسان تراقب رمزيًا المحكمة حتى لا تُطوى قضية التعذيب المروعة هذه، لاسيما وأن الضحية – كلاجئ – ينتمي إلى إحدى الجماعات الأكثر هشاشة وتعرّضًا للانتهاك في لبنان. وقد أرجئت ثلاث جلسات بسبب غياب أحد المحامين أو الطبيب الشرعي، لكنني واظبتُ على حضور كل الجلسات.

“الشفقة والرحمة، سيدي القاضي

سمحت لي جلسات المحاكمة الطويلة بمراقبة طريقة عمل المحكمة العسكرية. هي تُدار بانضباط – يجلس المتهمون في قفص الاتهام خلال المرافعات ويُشترط عليهم إبداء أقصى قدر من الاحترام للقاضي: وهم في وضعية التأهب، واضعين أيديهم خلف ظهورهم، وعليهم طلب الإذن للسماح لهم بالتكلم.

وفي يوم محكمة واحد، يطّلع القاضي على 30 قضية على الأقل. وفي نهاية كل استجواب موجز، يسأل القاضي المتهم: “شو بتطلب من المحكمة؟”

ويأتي الجواب المستقرّ: “الشفقة والرحمة، سيدي القاضي”.

استوقفتني هذه الكلمات؛ إذ إنه يجب على المرء أن يطلب العدالة من المحكمة، ومع ذلك يبدو أن هؤلاء المتهمين يشعرون بأنّ كلّ ما يمكنهم التأمل به هو الشفقة أو الرحمة.

حان موعد قضية بشار، ستُعرض للمرة الأولى أمام المحكمة.

طلب أحد محامي المتهمين الخمسة أن تُعقد الجلسة الأولى بعيدًا عن الأنظار، رفض القاضي الطلب قائلًا: “منظمة العفو الدولية موجودة بين الحضور. هذه قضية رأي عام – وليس لدينا ما نخفيه”.

وفي قضية مثل قضية بشار، لا يُسمح لمحامي العائلة بأن يخاطب القاضي مباشرة أو يقدم ملاحظات وأدلة للادعاء خلال الجلسة. فالضحية ليس محور القضية – هذه القضية تتعلق بمحاكمة العسكر للعسكريين.

“ملف كامل”

توفي بشار عن عمر 30 عامًا، تاركًا وراءه ثلاثة أطفال، من بينهم رضيع عمره شهر واحد. قبل ثماني سنوات من إلقاء القبض عليه، انشق عن الجيش السوري وانتقل إلى لبنان للعمل كحمّال. وعاش مع عائلته في مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت.

وفي العامَيْن الأخيرَيْن، وثّقتُ حياة بشار بشكل كامل، ومع ذلك لم أتمكن بتاتًا من التحدث إلى أسرته مباشرة، إذ كانوا منسحبين من الصورة، خوفًا أو احتياطًا، وكلاهما مبرّران. فاللاجئون في لبنان يعيشون في وضع خطر، ويواجهون خطر الاعتقال والترحيل في أي لحظة.

خلال الجلسات، ووفقًا لسردية عناصر جهاز أمن الدولة، فإن بشار وصلهم معترفًا عقب احتجاز الشرطة العسكرية له، وبدون آثار ضرب أو تعذيب على جسمه. وصلهم معترفًا بأنه تاجر مخدرات، ومدمن مخدرات، وعضو في تنظيم إرهابي، ومهرّب أسلحة. قالوا إنه وصل إلى مكتب أمن الدولة وهو تحت تأثير الكبتاغون، وهذا مخدر صناعي. وقال العنصر: “كان آخد كبتاغون، حبتين، 3 حبات، أربعة أو خمسة حتى، سِيدنا”، علمًا أن التقرير الطبّي الجنائي أكّد أن جثمانه كان خاليًا تمامًا من المخدرات.

قالوا إن بشار كان مضطربًا ومتوترًا، وقاوم الاستجواب، واعتدى بالضرب على أحد عناصر أمن الدولة “المعروف بحدة طباعه واعتداده الشديد بنفسه”. فضرب العنصر اللاجئ مرتين، بسلك شاحن الهاتف، لإخضاعه والسيطرة عليه. فانهار اللاجئ ومات، نتيجة تعاطي المخدر، على حد زعمهم.

قال الضابط المسؤول عن المركز للقاضي: “سيدنا، ليه بدنا نعذبه وهو واصل معترف؟!”.

سأل القاضي العنصر الغاضب: “في إفادات عنك إنك مشهور بالضرب؟”

فكان جوابه: “لا سيدنا، مرة ضربت واحد كف لأن تنمرد على الضابط. أنا بضرب بقوتي بس إذا التهمة إرهاب، ليعترفوا”.

أصغى القاضي بإمعان، وتابع الاستجواب بدقة وحزم.

ولم يحضر بشار، اللاجئ المتوفي، إلا في رواية الأشخاص المتهمين بقتله.

وبحلول الجلسة الرابعة، كان قد أُخلي سبيل جميع المتهمين من الحجز، ومن ضمنهم “العنصر الغاضب” المتهم بالضرب.

وأبلغ القاضي الادعاء أن عائلة بشار أسقطت حقها في القضية ضد عناصر الأمن. وسرت همسات بأن عائلة بشار تعرّضت للترهيب والترغيب لكي تُسقط التهم. مَن يجرؤ على لومهم؟

وبينما ننتظر صدور الحكم في 5 يوليو/تموز، يبقى أمر واحد جليًّا: هذه المحاكمة لا تتعلق بحصول بشار وعائلته على العدل، لكنها على الأرجح عملية تأديب داخلي للعسكريين لحمايتهم ومعاقبتهم. هي محاكمة للتمييز بين “الأخطاء النزيهة” والسلوك المشين، وإعادة التأكيد بأن الانضباط العسكري منزّه عن النقد.

ليس هناك أي مبرر للتعذيب بتاتًا. وينبغي مساءلة الذين يُشتبه بارتكابهم التعذيب في إجراءات قانونية مستقلة تستوفي المعايير الدولية للمحاكمات العادلة. المحكمة العسكرية لا تستوفي هذه المعايير، وينبغي أن تقتصر ولايتها القضائية في القضايا الجنائية – أسوة بالولاية القضائية لأي محكمة أو لجنة عسكرية – على محاكمات الأفراد العسكريين على إخلالهم بالانضباط العسكري. ولكي تكون السلطات اللبنانية جادة في القضاء على التعذيب في مرافق الاحتجاز، يتعين عليها إحالة هذه القضايا إلى المحاكم المدنية العادية، بصرف النظر عن الاتهامات الموجهة إلى ضحايا التعذيب، سواء كانت تهمة إرهاب، تهريب الأسلحة، تعاطي المخدرات، أو مجرد الانفعال في غرفة الاستجواب.