إسرائيل/الأرض الفلسطينية المحتلة: يجب التحقيق في ارتكاب الجيش الإسرائيلي جريمة الحرب المتمثلة في التدمير غير المبرر في قطاع غزة – تحقيق جديد

  • تجريف المزارع وهدم البنايات السكنية في مختلف أنحاء شرق غزة
  • صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر حجم الدمار
  • تدمير الآلاف من المنازل وتحويل الأراضي إلى مناطق غير صالحة للسكن

دعت منظمة العفو الدولية في بحثٍ جديد لها إلى إجراء تحقيق بشأن العملية العسكرية الإسرائيلية الرامية إلى توسيع “المنطقة العازلة” على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة المحتل بشكل كبير، باعتبارها تشكل جريمتي حرب، هما التدمير غير المبرر والعقاب الجماعي.

دمرّ الجيش الإسرائيلي، مستخدمًا الجرافات والمتفجرات المزروعة يدويًا، الأراضي الزراعية والمباني المدنية بشكل غير قانوني وسوّى أحياءً كاملة بالأرض، بكل ما فيها من منازل ومدارس ومساجد. 

ومن خلال تحليل صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو التي نشرها الجنود الإسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي خلال الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومايو/أيار 2024، حدد مختبر أدلة الأزمات التابع لمنظمة العفو الدولية الأرض التي أُخلِيت مؤخرًا على طول الحدود الشرقية لغزة، والتي يتراوح عرضها على وجه التقريب بين كيلومتر و1,8 كيلومتر. وفي بعض مقاطع الفيديو، يظهر الجنود الإسرائيليون وهم يتهيؤون لالتقاط الصور أو يرفعون الأنخاب احتفالًا بالتدمير بينما تُهدم المباني في الخلفية.

وقالت إريكا جيفارا روساس، كبيرة مديري البحوث وأنشطة كسب التأييد والسياسات والحملات في منظمة العفو الدولية: “ترقى حملة التدمير المستمرة بلا هوادة التي يشنها الجيش الإسرائيلي في غزة إلى جريمة التدمير غير المبرر، حيث أظهرت أبحاثنا مسحَ القوات الإسرائيلية المباني السكنية من الوجود وإرغام الآلاف من العائلات على الرحيل من منازلها وجعل الأراضي غير صالحة للسكن”.

“يظهر تحليلنا نمطًا مطردًا على طول الحدود الشرقية لغزة يتّسق مع التدمير الممنهج لمنطقة بأكملها، إذ إن الدمار الذي حل بهذه المنازل لم يكن نتيجة لقتال شرس؛ وإنما جراء تعمد الجيش الإسرائيلي تدمير الأرض بالكامل بعد بسط سيطرته على المنطقة”.

“ولا يجوز أن يكون إنشاء أي ‘منطقة عازلة’ بمثابة عقاب جماعي للمدنيين الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في هذه الأحياء. أما التدابير التي تتخذها إسرائيل لحماية الإسرائيليين من الهجمات التي تُشن عليهم من غزة فلا بد من تنفيذها على نحو يتوافق مع التزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك حظر التدمير بلا مبرر وحظر العقاب الجماعي”.

خريطة غزة أعلاه تسلط الضوء على ما وقع من أضرار ودمار خلال الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومايو/أيار 2024، في نطاق كيلومتر واحد من السياج الحدودي.  لقد لحقت أضرار جسيمة بأكثر من 90% من المباني أو دمرت بالكامل، وتدهورت بصورة بالغة حالة 59% من تربة الأرض المزروعة داخل هذه المنطقة.

وقد اعترف المسؤولون الإسرائيليون بتدمير المنشآت على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة باعتباره إجراءً أمنيًا اتخذ ردًا على الهجمات التي شنتها حركة حماس، وغيرها من الجماعات المسلحة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، من أجل حماية السكان الإسرائيليين من التعرض لمزيد من الهجمات. وبرر الجيش الإسرائيلي عمليات الهدم في جميع أنحاء غزة بقوله إنه دمرّ الأنفاق وغيرها من منشآت “البنية التحتية للإرهاب“.

وفي 2 يوليو/تموز 2024، أرسلت منظمة العفو الدولية أسئلة تتعلق بعمليات الهدم إلى السلطات الإسرائيلية؛ وحتى وقت نشر هذا البيان، لم تتلق المنظمة أي رد.

أظهرت أبحاثنا إرغام القوات الإسرائيلية للآلاف من العائلات على الرحيل من منازلها وجعل الأراضي غير صالحة للسكن

إريكا جيفارا روساس، كبيرة مديري البحوث وأنشطة كسب التأييد والسياسات والحملات في منظمة العفو الدولية

الضرورة العسكرية والقانون الدولي الإنساني

تغطي “المنطقة العازلة” الموسعة على امتداد السياج الحدودي مع إسرائيل مساحة قدرها نحو 58 كيلومترًا مربعًا، أي ما يشكل قرابة 16% من مساحة قطاع غزة المحتل بأكمله. وحتى مايو/أيار 2024، بدت أكثر من 90% من مباني هذه المنطقة (أي ما يزيد على 3,500 مبنى) وقد دمرت بالكامل أو لحقت بها أضرار جسيمة؛ وبدت على أكثر من 20 كيلومترًا مربعًا أو 59% من الأراضي الزراعية في المنطقة مظاهر التردي في جودة محاصيلها وكثافتها بسبب الصراع المستمر.

وأجرت منظمة العفو الدولية مقابلات مع المتضررين من السكان والمزارعين وحللت صور الأقمار الصناعية وتحققت من 25 مقطع فيديو صُورت على طول حدود القطاع، وتتبعت كذلك التصريحات الصادرة عن الجيش الإسرائيلي، وحماس، وغيرها من الجماعات المسلحة، للتحقق من قانونية التدمير، بما في ذلك ما إذا كانت تبرره ضرورة عسكرية حتمية.

وفي أربع مناطق شملتها تحقيقات منظمة العفو الدولية، نُفِّذت عمليات التدمير بعد أن أصبحت تلك المناطق خاضعة للسيطرة العملياتية للجيش الإسرائيلي، الأمر الذي يعني أنها لم تنجم عن قتال مباشر بين الجيش الإسرائيلي وحماس وغيرها من الجماعات المسلحة الفلسطينية. وفي هذه الأجزاء من قطاع غزة، هُدمت المنشآت بصورة متعمدة وممنهجة.

ويبدو أن الكثير من المنشآت قد دُمرت بسبب قربها من السياج الذي أقامته إسرائيل لفصلها عن قطاع غزة؛ ورغم أن الجماعات المسلحة قد تكون استخدمت هذه المنشآت لأهدافٍ عسكرية فإن احتمال لجوء الجماعات المسلحة لاستخدام الأعيان المدنية في المستقبل -سواء بسبب قربها من حدود القطاع أو لأسباب أخرى- ليس في حد ذاته سببًا يجعل المنازل أو المدارس أو المساجد أهدافًا عسكرية. وفضلًا عن ذلك، فإن الهدم العقابي للممتلكات المدنية، لا لشيء سوى أن الجماعات المسلحة قد استخدمتها، هو فعل محظور باعتباره شكلًا من أشكال العقاب الجماعي.

ويحظر القانون الدولي الإنساني، الملزم لجميع الأطراف في أي نزاع مسلح، تدمير ممتلكات الخصم إلاّ في الحالات التي تستلزمها الضرورة العسكرية الحتمية. كما يحظر القانون الدولي الإنساني الهجمات المباشرة على الأعيان المدنية.

ويجيز مبدأ الضرورة العسكرية لأحد أطراف الصراع اتخاذ التدابير الضرورية لإضعاف القوات العسكرية للخصم، التي لا يحظرها القانون الدولي الإنساني لأي سبب آخر. وثمة استثناء صريح لحظر تدمير ممتلكات الخصم، وهو الحالات التي تستلزمها “الضرورة العسكرية الحتمية”، مما يسمح بتدمير الممتلكات حين يخدم ذلك غرضًا عسكريًا مشروعًا، ولا ينتهك أي قواعد أخرى للقانون الدولي الإنساني، ومن بينها مبدأ التناسب وحظر العقاب الجماعي.

ومن أمثلة الغرض المشروع قيام أحد أطراف النزاع بتدمير منشأة توفر لعدوه غطاءً يمكّنه من إطلاق النار على قوات ذلك الطرف أثناء القتال الفعلي. وهذا التطبيق التكتيكي لا يسري على الحالات الموثقة هنا، لأنه في وقت عمليات الهدم كانت القوات الإسرائيلية تسيطر على المناطق المعنية، وكان القتال قد توقف إلى حد كبير. بل حتى في الحالات التي قد يلبي فيها التدمير غرضًا عسكريًا مشروعًا، يكون فيها مدى مثل هذا التدمير وطريقته محدودين بموجب مبدأ التناسب، إلى جانب قواعد أخرى للقانون الدولي الإنساني، بما فيها تلك التي تحكم الاحتلال العسكري.

وإذا كان الجيش الإسرائيلي يعتقد أن ثمة ضرورة عسكرية حتمت إنشاء “منطقة عازلة” لحماية الناس داخل إسرائيل من هجمات الجماعات المسلحة، فقد كان بإمكانه اللجوء إلى خيارات أخرى في الأراضي الإسرائيلية لتحقيق هذا الهدف، تلتزم بالقانون الدولي الإنساني، وتفي بالتزامات إسرائيل كسلطة الاحتلال. ونظرًا لوجود تلك الخيارات الأخرى وعدم الأخذ بها، فإن التدمير الممنهج واسع النطاق لا يتناسب مع السعي لتحقيق أي غرض عسكري مشروع محتمل؛ ومن هنا ينبغي التحقيق في هذه العمليات باعتبارها جريمة حرب تتمثّل بالتدمير غير المبرر. وعلى ضوء الأدلة التي تشير إلى أن جانبًا من تدمير المنازل، وغيرها من الممتلكات المدنية، قد نُفِّذ بهدف معاقبة المدنيين على هجمات شنتها الجماعات المسلحة، فلا بد أيضًا من التحقيق في هذا السلوك باعتباره جريمة أخرى من جرائم الحرب، وهي العقاب الجماعي.

ولقد خلصت محكمة العدل الدولية في رأي استشاري صدر عام 2004 إلى أن بناء إسرائيل لجدار داخل الضفة الغربية المحتلة غير قانوني. وأكدت المحكمة أن أي تدابير أمنية تتخذها إسرائيل يجب أن تتوافق مع التزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك التزاماتها باعتبارها دولة الاحتلال، والتزاماتها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. ويتضمن هذا أخذها بعين الاعتبار بدائل البناء في الأراضي الإسرائيلية التي تؤدي إلى تهجير عدد أقل من المدنيين، وتقديم تعويضات منصفة لأولئك المدنيين الذين فقدوا ممتلكاتهم وسبل عيشهم.

لا يبرر الاستخدام العسكري السابق للمنشآت المدنية بحد ذاته هدم ممتلكات المدنيين، ولا يمكنه أن يسوّغ تدمير أحياء عن بكرة أبيها، أو تدمير الأراضي الزراعية اللازمة لتوفير المحاصيل للسكان المدنيين.

خزاعة: “كل ما حولنا دمار بدمار”

تُظهر مقاطع فيديو نشرها جنود الاحتلال على مواقع التواصل الاجتماعي وتحققت منها منظمة العفو الدولية، تدمير المباني في خزاعة.

كان قرابة 11,000 فلسطيني يعيشون في بلدة خزاعة بمحافظة خانيونس جنوبي قطاع غزة؛ وخلال الأسابيع السبعة التي أعقبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تظهر صور الأقمار الصناعية أن ما يقدر بنحو 178 مبنى داخل البلدة وفي محيطها قد دُمرت أو لحقت بها أضرار جسيمة -بفعل الغارات الجوية في كثير من الأحيان. غير أن التدمير الأشد بدأ في أعقاب دخول القوات البرية الإسرائيلية للبلدة على نطاق واسع في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2023. فوفقًا لبيانات مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (يونوسات)، دُمرت أكثر من 850 منشأة أو لحقت بها أضرار جسيمة بين 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 و7 يناير/كانون الثاني 2024.

وفي 27 ديسمبر/كانون الأول، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه بدأ عملية أسماها “عوز ونير”، في إشارة لكيبوتس نير عوز في المنطقة المسماة “غلاف غزة” التي هاجمتها حماس وغيرها من الجماعات المسلحة في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وكتب العميد آفي روزنفلد، قائد فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي، رسالة لقواته قائلًا: “في يوم السبت المشؤوم، 7 أكتوبر/تشرين الأول، جاء الإرهابيون الفظيعون، الذين ارتكبوا أفظع الجرائم التي يمكن تصورها، من خربة خزاعة. سوف نعمل بكل ما أوتينا من قوة للقضاء على الإرهابيين المتخفين هناك فوق وتحت الأرض، ولتفكيك بنى الإرهاب والشر”.

وفي 28 ديسمبر/كانون الأول، نشر جندي إسرائيلي من كتيبة الهندسة 8219 أول مقطع فيديو ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي لعملية هدم في خزاعة. وكتب تعليقًا قال فيه: “في 7 أكتوبر/تشرين الأول، خرج إرهابيون من المنازل هنا لذبح سكان نير عوز. والليلة، دمرنا 30 منها”. وتؤكد صور الأقمار الصناعية أن ما لا يقل عن 30 منزلًا في المنطقة قد دُمرت خلال الفترة بين 26 و30 ديسمبر/كانون الأول 2023.

تظهر صور الأقمار الصناعية أن قطاعًا من خزاعة قد دُمِّر بين 26 و30 ديسمبر/كانون الأول 2023.

وفي الأيام التالية، نشر الجندي نفسه خمسة مقاطع فيديو تظهر عمليات للهدم بالمتفجرات، صُوِّرت معظمها من سطح المبنى نفسه. ويظهر الجنود مبتسمين وهم يتهيؤون أمام الكاميرا للتصوير، أو يدخنون السجائر أو الشيشة، أو يرفعون الأنخاب بينما تدمر الانفجارات عدة مبانٍ في الخلفية. وفي أحد مقاطع الفيديو، يسير ثلاثة جنود نحو الكاميرا بينما يقع انفجار خلفهم. ويقول النص باللغة العربية: “لقد عدنا من الموت لنطاردك”. ويتضح من أفعال الجنود في مقاطع الفيديو المشار إليها أنه لم يكن ثمة خطر وشيك يهددهم في ذلك الزمان والمكان.

وفي 29 ديسمبر/كانون الأول، أعلن الجيش الإسرائيلي أن جنوده يعملون على تحقيق السيطرة العملياتية على منطقة خزاعة، وزعم أنهم عثروا على العشرات من الأنفاق والأسلحة وراجمات الصواريخ. وكانت كتائب القسام، الجناح العسكري لحماس، قد أعلنت في وقت سابق على قناتها في منصة تلغرام أنها أطلقت قذائف صاروخية وقذائف هاون على القوات الإسرائيلية من منطقة خزاعة.

وفي 3 يناير/كانون الثاني، نظم الجيش الإسرائيلي جولة لطاقم صحفي من “قناة 14” التليفزيونية الإسرائيلية في منطقة خزاعة. وأوضح الجنود استخدامهم ألغام إم 15 المضادة للدبابات في تدمير المباني. وأجرى طاقم القناة مقابلات مع الجنود بالقرب من المباني المقرر هدمها، مما يشير إلى عدم وجود أي خطر وشيك يهددهم. وشوهدت كابلات توضع في محيط أحد المباني وقد كتب على جدران المبنى الرقم 8219 الذي يشير إلى كتيبة الهندسة.

وفي 10 يناير/كانون الثاني، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه قد أكمل عمليته في خزاعة، وقال إنه “دمر المئات من منشآت البنية التحتية للإرهاب ومواقع إطلاق الصواريخ ونقاط المراقبة”؛ وأضاف أن الجنود “قضوا على العشرات من الإرهابيين، واكتشفوا نحو 40 نفقًا ودمروها”.

غير أن صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو أظهرت أن القوات قد دمرّت كذلك المئات من المباني السكنية، ومقبرة، ومدرسة ابتدائية. وتقع معظم المباني التي هُدّمت على مسافة تتراوح بين كيلومتر و1,2 كيلومتر من السياج الحدودي. إن التدمير الممنهج للأعيان المدنية بدافع الانتقام ردًا على أفعال ارتكبتها الجماعات المسلحة قد يشكل عقابًا جماعيًا، ويجب التحقيق فيه باعتباره جريمة حرب.

تظهر صور الأقمار الصناعية التي تعود إلى 6 ديسمبر/كانون الأول 2023 و16 يناير/كانون الثاني 2024 تدمير الأراضي والمنشآت في خزاعة. وتبدو المنطقة الواقعة في نطاق كيلومتر واحد من السياج الحدودي – المحددة بخط أصفر متقطع- وكأن معظم مبانيها قد كشطت، حيث دُمرت كل مبانيها تقريبًا. ويستمر التدمير في بعض المناطق ليتجاوز الخط الممتد على بعد كيلومتر من الحدود.

وقال الدكتور سالم قديح، وهو مدرس عاش هو وأسرته في خزاعة، لمنظمة العفو الدولية: “كان بيتي يبعد حوالي1,650 مترًا عن الحدود. تركنا بيتنا في 11 تشرين الأول/أكتوبر 2023 لأن المنطقة أصبحت خطيرة جدًا… كان لدينا حول منزل عائلتي بستان مزروع بأشجار الفاكهة مساحته حوالي ثلاثة دونمات. كل الأشجار دمرت ولم يبقَ من البستان كله سوى شجرة تفاح ووردة. كنت أربي النحل المنتج للعسل وفقدت هذا أيضًا. من بين 222 منزلًا لعائلتي وأقربائي في المنطقة، لم يبقَ إلا بيوت معدودة. بيتي الذي عشت فيه مع زوجتي وبناتي الخمس وابني دُمر بالكامل”.

بيتي الذي عشت فيه مع زوجتي وبناتي الخمس وابني دُمر بالكامل

د. سالم قديح

أما تهاني النجار، وهي من سكان خزاعة وتبلغ من العمر 42 عامًا، فقد قالت لمنظمة العفو الدولية: “بدأ القصف في 8 تشرين الأول/أكتوبر وفي ذلك اليوم استشهد عمي وزوجته وأبناؤهم وأحفادهم… سبعة أشخاص. بعدها تركنا المنطقة، جميعنا مع عائلاتنا الممتدة، أكثر من 500 أسرة. ذهب ابني ليتفقد المنزل ووجد أنه البيت الوحيد الذي ما يزال واقفًا في المنطقة غير أن أضرارًا جسيمة لحقت به، كل ما حوله دمار بدمار… في منطقتنا عائلات النجار، كانت تمتلك بساتين وكروم بالقرب من بيوتها حيث زرعنا الفاكهة والخضار. والمناطق المجاورة حولنا كانت مليئة بالمزارع الأكبر التي أنتجت الخضار، أو كان يربي فيها المزارعون الدواجن، ومنطقتنا كانت بمثابة سلة غذائية لكل غزة. الناس لم يفقدوا بيوتهم فحسب، بل فقدوا سبل رزقهم وغزة كلها فقدت قدرتها على إنتاج الغذاء”.

الدمار من الشمال إلى الجنوب

تُظهر مقاطع فيديو نشرها جنود الاحتلال على مواقع التواصل الاجتماعي وتحققت منها منظمة العفو الدولية، تدمير المباني في الشجاعية.

وتعرضت أحياء أخرى على طول الحدود بين غزة وإسرائيل لدمار مماثل واسع النطاق بسبب عمليات الهدم الإسرائيلية.

ففي الشجاعية، وهو إحدى أكبر أحياء مدينة غزة، تعرض أكثر من 750 مبنى داخل وخارج “المنطقة العازلة” التي فرضتها إسرائيل، لأضرار جسيمة أو دمرت بالكامل خلال الفترة بين 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 و6 يناير/كانون الثاني 2024، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة. وكان من بين هذه المباني مدرستان، ومساجد، وعشرات من المباني السكنية. وزعم الجيش الإسرائيلي، دون تقديم أي أدلة، أن بعض هذه المباني كان يحتوي على أسلحة وذخائر وفتحات أنفاق.

صور للأقمار الصناعية التقطت في 26 نوفمبر/تشرين الثاني و26 ديسمبر/كانون الأول 2023، تظهر الدمار في حي الشجاعية. المنطقة الواقعة في نطاق كيلومتر من السياج الحدودي -محددة بخط أصفر متقطع- صارت شبه خاوية، فلم تعد فيها أي منشأة إلا وقد سُوِّيت بالأرض. يتجاوز التدمير خط الكيلومتر إذ يمتد نحو 430 مترًا داخل حي الشجاعية.

وفي 20 ديسمبر/كانون الأول 2023، نشر مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر فيه جنود كتيبة الهندسة 749 في الجيش الإسرائيلي وهم يحتفلون بهدم قرابة 30 منزلًا في الشجاعية. ولم يكن هناك أي مؤشر يشي بوجود خطر وشيك يهدد الجنود أثناء تصويرهم عملية التفجير التي وقعت على بعد نحو 200 متر منهم. ويمكن سماع صوت جندي يقول: “ناحل عوز، بإذن الله ستكون لك إطلالة على البحر”. 

ويشير الجندي إلى كيبوتس ناحل عوز الذي تعرض لهجوم من قبل الجماعات المسلحة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ويقع على مسافة تقل عن كيلومتر من السياج الحدودي على الجانب الإسرائيلي.

وفي مقطع فيديو آخر نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي في اليوم نفسه، صوّر جندي يقف في مبنى كان الجيش الإسرائيلي يتخذه قاعدة، العشرات من المباني المدمرة؛ ويقول الجندي في مقطع الفيديو: “شروق الشمس على أطلال ما كان يسمى الشجاعية. يمكنك أن ترى صور ناحل عوز من الجو من هنا، صور القاعدة العسكرية والبلدة”.

وفي 21 ديسمبر/كانون الأول، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه قد بسط سيطرته العملياتية على الحي بأكمله الذي يمتد مسافة داخل مدينة غزة، أي خارج “المنطقة العازلة” التي نتناولها بالتحليل هنا. وقال الجيش الإسرائيلي أيضًا إنه “دمرّ أكثر من 100 منشأة إرهابية، واكتشف ودمر العشرات من فتحات الأنفاق”. وبينما تعد تلك المنشآت بمثابة أهداف عسكرية، فإن وجودها داخل الحي لا يسوِّغ التدمير الممنهج لكل منشأة مدنية داخل ذلك الحيز المكاني.

وفي المحافظة الوسطى، دُمرّت المنطقة الواقعة في محيط وشرق مخيمي البريج والمغازي في الفترة بين أواخر ديسمبر/كانون الأول 2023 ويناير/كانون الثاني 2024 تدميرًا كليًا. ويتطابق الإطار الزمني للتدمير مع الهجوم العسكري الإسرائيلي في هاتين المنطقتين المكتظتين بالسكان، حيث زعم الجيش الإسرائيلي أنه عثر على أسلحة، وراجمات صواريخ، وفتحات أنفاق؛ ولكنه لم يقدم أي دليل أو تفسير للضرورة العسكرية الحتمية التي استدعت تدمير القرى والأراضي الزراعية الواقعة على طول الحدود الشرقية في الوقت الذي قيل فيه إن أسلحة وأهدافًا عسكرية قد اكتُشفت على مسافة أبعد داخل قطاع غزة.

ولحقت أضرار جسيمة بأكثر من 1,200 منشأة أو دُمرت بالكامل في المنطقة خلال الفترة بين 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 و29 فبراير/شباط 2024. وامتد التدمير لمسافة 1,8 كيلومتر داخل قطاع غزة من السياج الحدودي، وأكثر من مسافة 3 كيلومترات من شمال القطاع إلى جنوبه، ليشمل مساحة قدرها 4 كيلومترات مربعة.

صور للأقمار الصناعية التُقطت في 24 ديسمبر/كانون الأول 2023 و22 يناير/كانون الثاني 2024، تظهر الأراضي والمنشآت المدمرة في محيط مخيمي المغازي والبريج. لحقت أضرار جسيمة بأكثر من 1,200 منشأة أو دُمرت بالكامل خلال الفترة بين 26 نوفمبر/تشرين الثاني و29 فبراير/شباط.

وفي 14 مارس/آذار، نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صور التقطتها مسيّرة، وتظهر عدة مبانٍ تشتعل فيها النيران شرقي مخيم المغازي، على بعد نحو 900 متر من السياج الحدودي. وتظهر مركبات عسكرية إسرائيلية في صور الأقمار الصناعية التي التُقطت في 10 يناير/كانون الثاني 2024، مما يشير إلى أنها كانت آنذاك تسيطر على المنطقة، ويبدو أن المباني قد هدّمت بين 10 و12 يناير/كانون الثاني. وبحلول 15 يناير/كانون الثاني 2024، كانت الحقول المحيطة بالمنطقة قد جُرِّفت. 

وفي الجنوب، دمر الجيش الإسرائيلي أيضًا المباني والأراضي الزراعية في قريتي السريج وعبسان الكبيرة، وهما قريتان تبعدان عن السياج الحدودي بنحو كيلومتر واحد.

وتُظهر صور الأقمار الصناعية أن الجيش الإسرائيلي قد تقدم نحو قرية السريج في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2023. وحتى نهاية شهر يناير/كانون الثاني 2024، كان نحو نصف مباني القرية قد هدم، وجرفت الحقول المحيطة بها. وأظهرت مقاطع الفيديو المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي يومي 19 و20 يناير/كانون الثاني نسف مجموعة من المنازل. ولم ينشر الجيش الإسرائيلي ولا الجماعات المسلحة الفلسطينية أي ادعاءات عن أنشطتهم في قرية السريج ومحيطها.  

وفي أواخر فبراير/شباط 2024، توغل الجيش الإسرائيلي في المنطقة الواقعة شرقي خانيونس، حيث تقع قرية عبسان الكبيرة؛ وفي الفترة بين 13 فبراير/شباط و13 مارس/آذار، زعم الجيش الإسرائيلي أنه قتل مقاتلين فلسطينيين، وعثر على أسلحة وراجمات صواريخ في منطقة عبسان التي تشمل بلدتي عبسان الكبيرة وعبسان الصغيرة.

وتتزامن هذه الفترة مع هدم مسجد عمر بن عبد العزيز. ويظهر هذا الفيديو، الذي نُشر في 19 فبراير/شباط، جنودًا إسرائيليين يمشون في المنطقة في استرخاء وهدوء، دون أي مؤشر على وجود خطر وشيك يهددهم.

القانون الدولي الإنساني

ينطبق القانون الدولي الإنساني على حالات النزاع المسلح، بما في ذلك أثناء الاحتلال العسكري، ويتألف من قواعد تسعى إلى التقليل من المعاناة الإنسانية أثناء النزاع المسلح لأقصى حد ممكن.

وتُعد اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949، والبروتوكولان الإضافيان الملحقان بها لسنة 1977، الصكوك الرئيسية للقانون الدولي الإنساني. وتُعد الكثير من قواعد هذه المعاهدات جزءًا من القانون الدولي العرفي، أي أنها ملزمة لكافة الأطراف في أي نزاع مسلح، سواء صادقت على معاهدات بعينها أو لم تصادق، وسواء كانت قوات تابعة لدولة ما أم جماعة مسلحة من غير الدول.

ووفقًا لهذا المعيار العرفي، “يُحظر تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها ما لم يكن هذا التدمير أو الاستيلاء مما تحتمه ضرورات الحرب”. وفضلًا عن ذلك، فوفقًا للمادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تخضع لها أفعال إسرائيل باعتبارها دولة الاحتلال في غزة: “یحظر على دولة الاحتلال أن تدمر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات، أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتمًا هذا التدمير”.

أما المادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة، فتنص على أن “تدمير واغتصاب الممتلكات على نحو لا تبرره ضرورات حربية وعلى نطاق كبير بطريقة غير مشروعة وتعسفية” هو انتهاك جسيم للاتفاقية، ومن هنا يعد جريمة حرب.

وحيثما ينفذ هذا التدمير على سبيل العقاب الجماعي، فإنه يشكل انتهاكًا للمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على أنه: “لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها هو شخصيًا. تحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الترهيب”.

كذلك فإن الممتلكات المدنية تحظى بالحماية أثناء النزاع المسلح بموجب مبدأ التمييز الذي يقتضي من أطراف النزاع التمييز في جميع الأوقات بين “الأعيان المدنية” و”الأهداف العسكرية”، والاقتصار في هجماتها على الأهداف العسكرية على سبيل الحصر. ووفقًا للقانون الدولي الإنساني العرفي، فإن الأعيان المدنية هي كافة الأعيان التي ليست “أهدافًا عسكرية”؛ و”تنحصر الأهداف العسكرية فيما يتعلق بالأعيان على تلك التي تسهم مساهمة فعالة في العمل العسكري سواء كان ذلك بطبيعتها أم بموقعها أم بغايتها أم باستخدامها، والتي يحقق تدميرها التام أو الجزئي أو الاستيلاء عليها أو تعطيلها في الظروف السائدة حينذاك ميزة عسكرية أكيدة”. وتتمتع الأعيان المدنية بالحماية من أي هجوم ما لم تصبح أهدافًا عسكرية، وطوال الوقت الذي تظل فيه كذلك، عندما تكون جميع معايير الهدف العسكري مستوفاة بصورة مؤقتة؛ ويقتضي البروتوكول الأول من أطراف النزاع أن تفترض في حالات الشك أن المنشأة تحتفظ بطبيعتها المدنية. وشن هجمات على أعيان مدنية عمدًا هو جريمة حرب.